جذور الفجوة الحضارية ـ ومواكبة العصر ... الجزء الرابع ... بقلم محمد السني

 


(4) جذور الفجوة الحضارية ـ ومواكبة العصر


عصور الندية الحضارية.. "العصور الوسطى المتأخرة 2-3"


أوضحنا سابقًا كيف تزامن الازدهار الحضاري المصري خلال عصري الدولتين المستقلتين (الفاطمية، والأيوبية) مع عصور الازدهار الأوروبي النسبي إبان العصور الوسطى العليا ، بل وتفوقت عنها في الكثير من النواحي.

 ولكن مع أواخر العصور الوسطى الأوروبية، التي قُدرت بالفترة من 1250 - 1500م، حدث اضمحلال للتقدم النسبي الذي شهدته أوروبا إبان العصول الوسطى العليا (الوسيطة)، وأخذ عدد السكان بالتناقص بشدة وتقلصت الصناعة والتجارة.

 وانتشرت المجاعات التي اتبعها اضطرابات شديدة، بلغت ذروتها في المجاعة الكبرى (1315 - 1317م). واُتبعت هذه الاضطرابات بالموت الأسود في عام 1348م، وهو وباء انتشر في جميع أنحاء أوروبا خلال السنوات الثلاث التالية.

 وقُدر عدد الوفيات بحوالي ثلاثين مليون شخص في أوروبا، (حوالي ربع السكان). 

ورغم ذلك ارتفعت الدول القومية القوية في جميع أنحاء أوروبا، لا سيما في إنجلترا وفرنسا وممالك في شبه الجزيرة الأيبيرية، وتاج أرغون، وتاج قشتالة، والبرتغال، وبولندا، والمجر، والدنمارك، والسويد، وكالمار، وإسكتلندا وغيرهم. واستفاد الملوك من الحروب التي وسعت التشريعات الملكية وزادت الأراضي التي يسيطرون عليها مباشرة مما أدى إلى ثراء الملوك.

 وسُمح بالحصول على موافقة دافعي الضرائب لهيئات تمثيلية مثل البرلمان الإنجليزي والفرنسيات العامة للحصول على السلطة.


 كما عمل انهيار النظام الإقطاعي في القرن الرابع عشر الميلادي إلى إضعاف النبلاء الإقطاعيين إلى حد كبير.

 وبمساعدة الجيوش المُؤجرة، قام الملوك بفرض سلطاتهم على النبلاء والفرسان الإقطاعيين. 

وكانت قوة الأباطرة البيزنطيين مهددة من قبيلة تركية جديدة، وهم العثمانيون الذين أسسوا أنفسهم في الأناضول في القرن الثالث عشر وتوسعت بشكل مطرد طوال القرن الرابع عشر، حتى دخول القسطنطينية على يد العثمانيين في عام 1453.

بعد الموت الأسود، تمكن الناجون من الحصول على مناطق أكثر خصوبة. وانخفضت العبودية في أوروبا الغربية، وانخفضت نسبة الأقنان بين الفلاحين من 90% إلى ما يقارب 50% بنهاية الفترة.

 وأصبح الملاك أكثر وعيًا بالمصالح المشتركة مع غيرهم من مالكي الأراضي، وانضموا معًا لأخذ الامتيازات من حكوماتهم.

 وأصبح رجال الدين وغيرهم أكثر إلمامًا بالقراءة والكتابة، وبدأ السكان الحضريون في تقليد اهتمام النبلاء بالفروسية.

 استمر صعود الأعمال المصرفية في إيطاليا خلال القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر.

تنامت سلطة البابوات مع تنامي سلطة الملوك، الأمر الذي أدى إلى ظهور نزاعات كبيرة بين حكام الكنيسة وحكام الدولة، وتمزقت الكنيسة بسبب النزاعات القائمة حول انتخاب البابوات. 

وأدت تلك النزاعات إلى ضعف الوحدة الدينية في أوروبا الغربية. وقد تم اتهام العديد من المصلحين الدينيين بالهرطقة من قبل الكنيسة، ومن ثمَّ إدانتهم. وانتشر التصوف المسيحي. وأصبح الإيمان بالسحر والسحرة منتشرًا على نطاق واسع. وقاد اللاهوتيون مثل جون دانز سكوطس (ت 1308)

وليم الاوكامي

ووليم الأوكامي (المتوفى عام 1348) الحركة الفكرية خلال العصور الوسطى المتأخرة، وكانت ردة فعل ضد (المدرسة) واعترضوا على تطبيق العقل للإيمان. وتركزت جهودهم على فكرة المثالية الأفلاطونية عن (الكون).

 ومُورس الاضطهاد الديني لليهود على نطاق واسع. واُعتبرت فترة العصور الوسطى المتأخرة بحسب الغالبية من الباحثين، الأشد ظلامية، وزروة (الاضمحلال الحضاري الأوروبي).

ورغم هذا الاضمحلال الحضاري الكبير، لم تخلو أوروبا من بعض الإيجابيات بحكم التطور العام، حيث تميزت الدراسات القانونية بالتقدم المطرد للقانون الروماني في مجالات الفقه التي كان يحكمها القانون المعرفي. وانتشرت المدارس الثانوية التجارية والجامعات في جميع أنحاء أوروبا في القرنين الرابع عشر والخامِس عشر. وارتفعت معدلات محو الأمية، لكنها كانت منخفضة، 10% من الذكور و1% من الإناث في عام 1500م. وازداد نشر الأدب العامي

. وكان العلماء والفنانون في القرون الوسطى المتاخرة أقل اهتمامًا بالفكر الديني، وقد تركز اهتمامهم على فهم العالم والناس، وقد سميت وجهة النظر الجديدة (النزعة الإنسانية)، اسوة بأسلافهم من علماء الإغريق والرومان القدامى وفنانيهم.  

فقد أعادوا اكتشاف المؤلفات القديمة واستوحوا منها إلهامًا، وبدأ حينه المعماريين في تصميم أبنية غير دينية، وقد قام الرسامون والنحاتون بتمجيد الإنسان والطبيعة في أعمالهم. وتزايد عدد كُتاب الشعر والنثر باللغات المحلية، كاللغة الفرنسية واللغة الإيطالية، وليس باللغة اللاتينية، وقد فتح هذا الاستخدام المتزايد للغات المحلية، عصرًا أدبيًا جديدًا للتعليم والأدب إلى عامة الشعب. 

مع أوائل القرن الخامس عشر، بدأت الاستكشافات خارج حدود أوروبا، مثل جزر الكناري، وجزر الأزور، والرأس الأخضر، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام 1486م حتى عام 1497، واكتشاف الأمريكتين عام 1492م، وجزيرة كيب بريتون، والوصول إلى الهند. ونهب موارد البلاد المُكتشفة، وتكوين مستعمرات ومحطات تجارية للمستوطنين البيض على المناطق الساحلية، وتم ذلك باستخدام القوة والقهر والإبادة الجماعية


 والقرصنة للسكان الأصليين في البلدان المُكتشفة، وفي تلك الحقبة التي بدأت الرأسمالية الغربية في التكون.


وفي نهاية الفترة أدى تطور المطبعة في حوالي عام 1450م إلى إنشاء دور نشر في جميع أنحاء أوروبا بحلول عام 1500. وظهر المدفع في ساحة المعركة في كريسي في عام 1346م. وكان زيادة استخدام المشاة والفرسان الخفيفة واحدًا من التطورات الرئيسة في المجال العسكري خلال أواخر العصور الوسطى. واستبدلت العجلة الدوارة التوزيع التقليدي للغزل الصوفي، مما أدى إلى إنتاج ثلاثة أضعاف. وتم تطوير طواحين الهواء مع بناء طاحونة البرج. وظهر الفرن اللافح حوالي عام 1350م في السويد، مما أدى إلى زيادة كمية الحديد المُنتج وتحسين نوعيته. 

وظهر أول قانون لحماية حقوق المخترعين في اختراعاتهم عام 1447م في البندقية.


واصلت شمال أوروبا وإسبانيا استخدام الأساليب القوطية في العمارة، والتي أصبحت أكثر تفصيلًا في القرن الخامس عشر.

 كما استمر الفن العلماني في جميع أنحاء أوروبا في الزيادة من حيث الكمية والنوعية، وفي القرن الخامس عشر أصبحت الطبقات التجارية في إيطاليا والفلمنك من الرعاة المهمين، بالإضافة إلى مجموعة متنامية من السلع الفاخرة مثل المجوهرات، والعاج، والفخار. 

كما شملت هذه الأشياء أيضًا الخزف الإسباني - المغربي الذي أنتجته معظمها خزفيات المدجن في إسبانيا. وتطورت صناعة الحرير الإيطالي، وحلت محل الواردات من بيزنطة والعالم الإسلامي.

 وأصبح هناك صناعة فاخرة كبرى في فرنسا وفيلدرز. وأصبحت الكتب التاريخية ذات شعبية كبيرة.


في مقابل الاضمحلال الحضاري الأوروبي إبان أواخر العصور الوسطى الأوروبية، كان المصريون يعيشون ثراءً حضاريًا وثقافيًا وارتقوا في الكثير من المجالات العلمية كالطب والهندسة والبصريات والرياضيات والفلك وغيره. وقد تزامن عصر الدولة المملوكية (1250-1517)، وهي إحدى الدول المستقلة التي قامت في مصر في العصور الوسطى المصرية، وامتدت حدودها لاحقا لتشمل الشام والحجاز، تزامن مع نشأة العصور الوسطى المتأخرة في أوروبا. فبعد توطيد أركان الدولة المملوكية، وإنزال الهزيمة القاسية بالمغول في معركة عين جالوت في الثالث من سبتمبر 1260م على يد السلطان المملوكي سيف الدين قطز، توج السلطان بيبرس جهوده ضد الإفرنج باسترجاع أنطاكية في شهر مايو سنة 1268م. وكانت خسارة الإفرنج بسقوط أنطاكية ضخمة، لأنها كانت كبرى إماراتهم بالشام، وثاني إمارة أسسوها بعد الرها، لذلك جاء سقوطها إيذانًا بانهيار البناء الإفرنجي بالشام، بحيث لم يبق لهم بعد ذلك من المدن سوى عكا وطرابلس. وبتولي الأمير قلاوون


العرش المملوكي، وهو عصر الازدهار الكبير في الدولة المملوكية، عاود مواجهة المغول والإفرنج الذين ما فتئوا يهددون الشام من وقت لآخر. وفي أكتوبر عام 1281م دارت بين المماليك والمغول (موقعة حمص)، هُزم فيها المغول هزيمة ساحقة وفروا إلى العراق. وفي سنة 1285م، استغل قلاوون انشغال الإفرنج بمنازعاتهم الداخلية، فهاجم الإسبتارية في حصن المرقب واستولى عليه، مما سبب خسارة كبرى للإفرنج. ثم أرسل حملة استرجعت اللاذقية سنة 1278م، وهي آخر بلد كان قد تبقى للإفرنج من إمارة أنطاكية، ثم خرج قلاوون من مصر على رأس جيشه قاصدًا طرابلس، وذلك في فبراير سنة 1289م. وسقطت طرابلس في قبضته بعد أن احتلها الإفرنج طيلة مائة وثمانين سنة. وبعد وفاته اقتحم ابنه الأشرف خليل عكا في 18 مايو عام 1291م، وفر الإفرنج في السفن الراسية إلى عرض البحر، حيث غرقت بعض السفن بسبب كثرة من تحمله من الفارين، ووقع من بقي منهم في الأسر. 

كانت استعادة المماليك لعكا بمثابة الضربة الكبرى الختامية التي نزلت بالإفرنج في الشام. ولم يصبح للإفرنج بعد ذلك مقام في تلك البلاد، فاسترجع المماليك في سهولة المراكز القليلة الباقية بأيديهم مثل صور وصيدا وطرطوس وعثليث، وأجلوهم عن تلك البلاد، فركبوا البحر عائدين إلى بلادهم الأوروبية، لتختتم بذلك صفحة الحروب الإفرنجية في المشرق بعد أن مضى عليها قرنان من الزمن. 

كان لدولة المماليك علاقات ندية كاملة مع مختلف الدول المحورية والمؤثرة عالميًا آنذاك، فمن ناحية الشرق ظلت علاقات المماليك متوازنة مع الصفويين ولكنها توطدت عام 1514م، وذلك عندما خسر الصفويون في نزاعهم مع العثمانيين فاتجهوا إلى تحسين علاقاتهم مع دولة المماليك باعتبارها قوة عالمية هامة آنذاك. ومن ناحية الغرب كانت العلاقات بين المماليك والحفصيين في تونس جيدة وودية، وذلك بسبب الخطر المشترك عليهما من البحر المتوسط، مما دفع الدولتين إلى التعاون لرد الاعتداءات الخارجية. وبالنسبة لعلاقة المماليك ببعض القوى الأوروبية، فقد اجتذبت موانئ مصر المدن التجارية الإيطالية، مثل البندقية وجنوة وبيزا، بفضل التكاليف الزهيدة للبضائع القادمة من الشرق الأقصى عبر هذا البلد، إضافة إلى ميزة الحصول على حاصلات الأراضي المصرية ومنتجاتها الصناعية، لكن توثيق العلاقات السلمية مع مصر لم يكن بالسهولة التي تبدو لأول وهلة، بسبب عداوة المماليك للإفرنج في بلاد الشام.

 بينما اختلف الوضع مع إمارات أوروبا الغربية مثل قشتالة وأرغونة وإشبيلية، وقد ارتبطت صقلية بعلاقات طيبة مع حكام مصر منذ العهد الأيوبي، وقد جمعت الطرفين مصلحة مشتركة وهي العداء للإفرنج في بلاد الشام ومغول فارس. أما من ناحية الجنوب فقد هيمن المماليك على كافة حدودهم السياسية الجنوبية بالسيطرة الكاملة على شواطيء البحر الأحمر الشرقية والغربية حتى موانيء عدن بعد ضم اليمن، وأيضًا السيادة الكاملة على النوبة التاريخية التي تمتد حتى مدينة مروي قرب الشلال الرابع والملاصقة لمدينة الخرطوم الحالية.

أنشأ المماليك نظام حكم أكثر تطورًا مما كان سائدًا في أوروبا آنذاك. فكان هناك مجلس المشورة الذي كان يُعقد برئاسة السلطان أو نائبه أو من يقوم بالوصاية عليه، وعضوية أتابك العسكر والوزير وقضاة المذاهب الأربعة والأمراء. 

وقد وُجد إلى جانب سلطان المماليك ونائب السلطنة عدد من كبار الموظفين، مهمتهم المساعدة في شؤون الحكم والإدارة.

 كما نشأت وظيفة مرموقة وهي وظيفة (المحتسب)، وكانت وظيفته الإشراف على الأسواق. 

أما الإدارة المحلية في المدن والأقاليم فقد تولى الإشراف عليها عدد كبير من الولاة اُختيروا دائمًا من بين الأمراء. وكما كانت المجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى مجتمعات طبقيه، تكونت من طبقة النبلاء والأمراء وطبقة رجال الدين وطبقة عامة الناس من تجار أغنياء وصناع وفلاحين وفقراء.

 المجتمع المصري في عصوره الوسطى كان أيضًا قريبًا من هذا االشكل، فكانت طبقة الأمراء وهي الطبقه الأرستقراطيه، وطبقة رجال الدين (المعممين)، وطبقة عامة من التجار والصناع والفلاحين. ولكن لم يكن لرجال الدين في مصر نفس نفوز نظرائهم في أوروبا، بل ظلوا يخدمون النظام السياسي المدني وتحت سيطرته. 

وكان النظام السياسي في مصر نظامًا إقطاعيًا عسكريًا. تسيطر فيه طبقة الأمراء الأرستقراطية عن طريق امتلاك الإقطاعيات الزراعية، وتجارة المرور، وأحيانا عن طريق الاحتكار في التجارة الخارجية.

انتشرت الأسواق المتخصصة إبان العصر المملوكي بكثرة في مصر، وامتدت لتشمل القاهرة وكافة الأقاليم، وكانت تلعب دورًا كبيرًا في التنزه وتبادل الأخبار ومناقشة الموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكانت الأسواق بمثابة مراكز لتكوين الرأي العام. ويوضحه كلام المقريزي عن معدل الاستهلاك اليومي للمواد الغذائية، والاستهلاك الترفي يوضح مدى ازدهار المجتمع المصري في النصف الأول من العصر المملوكي. ومن الصناعات الحرفيه التى ازدهرت في مصر صناعة الموبيليا والأقمشة والملابس إضافة لكافة الحرف المرتبطة بالاحتياجات اليومية مثل المأكولات.

قامت المرأة في عهد المماليك بدور فعال ومتميز، إذ لم يبخل الحكام على نسائهم وبناتهم بالمال والمتاع وأضفوا عليهن ألقاب التشريف، وخاطبوهن في المكاتبات بعبارات التشريف والتكريم، وأطلق عامة الشعب على نسائهم ألقابًا تنم عن التقدير والاحترام، مثل (ست الناس) و(ست الخلق) و(ست الكل)، وذلك من باب الفخر والتزكية والثناء والتعظيم. وكتب المؤرخ ابن الحاج:

 "أن الست المصريه كان لها مكانة محترمة في المجتمع المصري وكانت هي المسئولة عن بيتها وبتديره من غير تدخل الراجل"


وكان هناك العديد من الاحتفالات التي احتفل بها المسلمون والمسيحيون واليهود في العصر المملوكي وما زالت موجودة حتى الآن.

 كما انتشرت وسائل الترفيه في العصر المملوكي، مثل القهاوي، والساحات الترفيهية. كما أن بعض الدراسات أوضحت أن جزءًا على الأقل من قصص ألف ليلة وليلة كُتبت في مصر في العصر المملوكي، كما وُجدت وسيلة ترفيه أخرى مهمة وهي "خيال الضل" أو "طيف الخيال"، وهي من أهم الفنون الشعبية وطريقة التسلية المفضلة عند الناس. وقد امتدح ابن خلدون الدولة المملوكية من هذه الناحية وقال إنها كانت من محاسنها وآثارها الجميلة الخالدة. كما وُجدت مجالس العلم للمثقفين والعلماء وكانت عبارة عن اجتماعات يناقشون فيها العلوم والدين والسياسة وأحوال البلد، وكانت هذه المجالس مزدهرة في العصر المملوكي لأن السلاطين المماليك بشكل عام كانوا يحبون العلم والأدب ويشجعونه، ونبغ من المماليك أنفسهم مثقفون كبار وكتاب ومؤرخون كبار مثل

 "ابن أيبك الدواداري" و"خليل بن شاهين الظاهري" 

و"صارم الدين دقماق"

 و"ابن تغري" 

و"ابن إياس" 

والكثير غيرهم ممن أثروا ثقافة وحضارة الأمة المصرية. 


شهدت مصر مع بداية العصر المملوكي نمو سكاني كان من أسبابه رسوخ النظام السياسى القائم على قوة مصر العسكرية وحالة السلام التي امتدت لأكتر من مائتي سنة.

 وكانت القاهرة في عصر المماليك أكبر مدينة في العالم آنذاك من حيث المساحة وعدد السكان، وقدر باحثون عدد سكان مصر في منتصف القرن الرابع عشر بحوالي ثلاثة مليون نسمة وسكان القاهره بحوالي 600 ألف نسمة.

حظيت مصر المملوكية بتسامح ديني شديد، وشارك المسيحيون بشكل ملحوظ في الحياة الثقافية وظهر منهم كتاب ومؤرخون كبار مثل ابن العميد، 

والمفضل ابن أبي الفضائل، وابن الدهيري

، وغيرهم. وعمل الكثير من المسحيين في أجهزة الدولة والدواوين ومارسوا نفس مهن المصريين المسلمين، وتمتعوا بكافة الحقوق كمواطنين. كما شهد تأسيس الدولة المملوكية في مصر تعيين أول وزير قبطي منذ دخول العرب مصر هو شرف الدين أبو سعيد هبة الله صاعد الفائزي الذي تم تنصيبه وزيرًا للسلطان عز الدين أيبك. وامتلأت مصر بالكنائس في العصر المملوكي، وجوابات سلطان مصر بتكليف بطريرك اليعاقبه تبين مدى احترام الدولة المملوكية للبطريرك ونص بعضها على: "الحضرة السامية، القديس، المُبجل، الجليل، المُكرم، المُوقر، الكبير، الديان، الرئيس، الروحاني، الفاضل، الكافي، المُؤتمن، عماد بني المعموديه، كنز الأمة المسيحية. أطال الله تعالى بهجته، وأعلى على أهل طائفته درجته، قد حاز من فضائل ملته أسماها".

إبان عصر المماليك تطورت الفنون والثقافة وفن البناء وازدهرت الحركة الصوفية والحركة التأريخية التي لم يكن لها مثيل. وقد امتاز العصر المملوكي بكثرة ما أُنشئ فيه من المكتبات العامة والخاصة، وكان أغلب السلاطين والعلماء والفقهاء والأدباء يتنافسون في جمع المخطوطات النادرة من كتب الفقه واللغة والطب والأدبيات ودواوين الشعراء. 

وتبع الأدباء في العصر المملوكي أسلافهم، ومنحوا أنفسهم حرية واسعة في الخروج على تقاليد أهل المقامات، وكتبوا في الوصف والغزل والعظة، وألوان من العلم، وضرب من الفكاهة والسخرية والتسلية التي كانت من سمات هذا العصر، فنجد أن كثيرًا من الأدباء أنشأوا المقامات، ومنهم الشاب الظريف

وابن الوردي

والصفي الحلي 

والصلاح الصفدي

 والشهاب القلقشندي 

وابن حجة الحموي

 وجلال الدين السيوطي.

 ولم يكن الشعراء في العصر المملوكي تقليدًا صرفًا للقدماء، لقد قلدوهم في الأغراض التقليدية.

شهدت مصر نهضة عمرانية كبيرة في العصر المملوكي لم تشهدها منذ العصر الفرعوني فاهتم حكام الدولة المملوكية بالعمارة، وخاصة في عصر الناصر محمد بن قلاوون (1285 - 1341م) . واعتمد الطراز المعماري في مصر المملوكية على التراث المصري المحلي وطغت عليه الروح المصرية الصميمة، ولم تظهر فيه تأثيرات خارجية سوى بعض تأثيرات في الزخارف والنقوش من الفن المغولي نتيجة لاتصال مصر بالمغول في تلك الفترة، كما تميزت مباني العصر المملوكي بالجمال والزخارف البديعة والرسوخ والمداخل العالية. ويُعتبر جامع السلطان حسن


 الذي بدأ بنائه السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون سنة 1357م من أشهر مباني الدولة المملوكية ومن أروع المباني على مستوى العالم، بالإضافة إلى الحمامات المزينة بالمناظر الجميلة على جدرانها، والجوامع التي اشتُهرت بمآذنها الرفيعة الرشيقة والجدران العالية المزركشة ومـآذن برؤوس مزدوجة. ويُعتبر شارع المعز لدين الله أهم الشوارع التاريخية في القاهرة ومصر كلها 


وهو ممتلئ بمباني من العصر المملوكي، وهو من ضمن مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونيسكو.

انتشرت في مصر الموانئ على النيل وعلى البحرين الابيض والاحمر. ووُجدت ترسانات لصناعة السفن كانت تُسمى "الصناعة". وأهتم المصريون بالأشجار التي صنعوا من أخشابها المراكب والسفن والشواني. ويقول ابن بطوطة الذي زار مصر في عهد الناصر محمد بن قلاوون:

 "شاطئ مصر جنة .. ما مثلها من بلد والفلك كالأفلاك .. بين صادر ومصعد". وقام المماليك بأعمال كثيرة وهامة، مثل تنظيم البريد، فخصصوا له المراكز على الطرق، وأمدوها بالخيل والبغال، وبذلوا مجهودًا كبيرًا في تطوير استخدام الحمام الزاجل في نقل الرسائل، وبلغوا بها حد الكمال.

وبذلك نجد أن عصور الأمة المصرية الوسطى، التي شهدت مولد الدول المستقلة المتعاقبة (الطولونية، والإخشيدية، والفاطمية، والأيوبية، والمملوكية) كانت أكثر تقدمًا وتطورًا وإنسانية من نظيرتها الأوروبية التي كانت ترزح تحت ويلات وظلامات مستنقعات العصور الوسطى. وتحققت لها الندية الكاملة لنظيراتها حول العالم آنذاك، بل وتفوقت عليهم في كثير من النواحي الحضارية. ورغم أن أغلب مؤسسي تلك الدول لم يكونوا من أصول مصرية إلا أنهم تفانوا في خدمة مصر ورفعة شأنها وحماية أمنها واستقلاليتها، ولم يكن لهم وطنًا آخر غير مصر، حتى أن مصر أصبحت شبه إمبراطورية في عصورهم. ولكن بنهاية عصر الدولة المملوكية، حدثت حالة من الاضمحلال للقوة المصرية، ورغم أنه لم يكن الاضمحلال الأول إلا أن القدر لم يمهل مصر الوقت الكافي للتعافي والنهوض مجددًا كما حدث من قبل كثيرًا. إذ انقضت قوة استعمارية جديدة على الأمة المصرية، ممثلة في الاحتلال العثماني البغيض، لتفقد مصر استقلالها، وتخضع لقوة ظلامية ورجعية وبربرية، تعزلها كباقي مستعمراتها عن أهم وأخطر وأكبر تغيرات في تاريخ البشرية، وهي التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحضارية التي واكبت نشأة وتطور الرأسمالية الغربية، وأدت إلى خروج الغرب من مستنقعات العصور الوسطى ودخول العصر الحديث، وولادة (الدولة الوطنية الحديثة)، من خلال عصري النهضة والتنوير الغربيين، وحدث ذلك بالتحديد ابتداءً من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. بينما بقيت الإمبراطورية العثمانية غارقة في مستقعات العصور الوسطى بكل ظلاميتها واستبدادها وطغيانها واستنزافها لموارد وخيرات مستعمراتها ومنها مصر. لتحدث للمرة الأولى في تاريخ الأمة المصرية (الفجوة الحضارية) الهائلة بينها وبين القوى الحضارية الصاعدة وهي دول أوروبا الغربية، المتاخمة لحدودنا الشمالية، مما أوجد التبعية الموضوعية لمصر وغيرها من الدول القابعة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية لهيمنة وسيطرة دول مركز الرأسمالية العالمية... وهو ما سنأتي إليه لاحقًا بشيء من التفصيل.

...

المراجع:

1 - العصور الوسطى الباكرة - تأليف نورمان كانتور - ترجمة د. قاسم عبده قاسم

دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية 1993م.

2 - تاريخ أوروبا في العصور الوسطى - مكتب عين الجامعة - تأليف موريش بيشوب - ترجمة علي السيد علي- المجلس الأعلى للثقافة 2016م.

3 - تاريخ أوروبا في العصور الوسطى - د. محمود سعيد عمران - دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع - صدر 2005م.

4 - الكامل في التاريخ - ابن الأثير - هيئة الكتاب المصرية 1998م.

5 - تاريخ أوروبا في العصور الوسطى - تأليف سعيد عبد الفتاح عاشور 2015م

6 - موسوعة الحضارات المختصرة - تأليف محمود قاسم 2012م

7 - موسوعة تاريخ أوروبا - الجزء الأول - تأليف مفيد الزيدي 2003م

8 - تاريخ أوروبا في العصور الوسطى - تأليف د. إيناس محمد البهيجي 2017م

9 - ابن إياس - بدائع الزهور في وقائع الدهور - تحقيق محمد مصطفى - جمعية المستشرقين الألمانية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1982م

10 - ابن بطوطة - رحلة ابن بطوطة المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" - دار الكتب العلمية - بيروت 1992م.

11 - ابن تغري - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - دار الكتب والوثائق القومية - مركز تحقيق التراث، القاهرة 2005م.

12 - جاستون فييت - القاهرة مدينة الفن والتجارة - عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، القاهرة 2008م.

13 - تاريخ مصر الإسلامية - تأليف د. جمال الدين الشيال - دار المعارف - القاهرة 1966م.

14 - عواصم مصر - حسن الرزاز - دار الشعب - القاهرة 1995م.

15 - السلوك لمعرفة دول الملوك - المقريزي - دار الكتب - القاهرة 1996م.

16 - مماليك مصر والشام - د. شفيق مهدي - الدار العربية للموسوعات - بيروت 2008م.


...

بقلم

محمد السني 


لينكات الفيس بوك 

https://www.facebook.com/mohammed.sony.54

و

https://www.facebook.com/Mohamm

ad.Elsony

لينكات الأجزاء السابقة

الجزء الاول

https://araboartsrd.blogspot.com/2022/10/blog-post_39.html

 الجزء الثاني 

https://araboartsrd.blogspot.com/2022/10/blog-post_81.html

الجزء الثالث 

https://araboartsrd.blogspot.com/2022/10/blog-post_23.html

تعليقات