(14) جذور الفجوة الحضارية "اللقاء الأول.. والصدمة الحضارية 2-3" ... بقلم محمد السني

 





(14) جذور الفجوة الحضارية "اللقاء الأول.. والصدمة الحضارية 2-3"



دخل نابليون مدينة القاهرة، تحوطه قواته من كل جانب، وفي عزمه توطيد احتلاله للبلاد، بإظهار الود للمصريين، وبإقامة علاقة صداقة مع الاستعمار العثماني السابق، وباحترام عقائد أهالي البلاد، والمحافظة على تقاليدهم وعاداتهم، حتى يتمكن من إنشاء القاعدة العسكرية، وتحويل مصر إلى مستعمرة فرنسية قوية، يمكنه منها توجيه ضربات قوية إلى الإمبراطورية البريطانية.


ومن القاهرة؛ أصدر نابليون أوامره، بأن تُدار أمور مصر كلها عن طريق (دواوين)، مكونة من المشايخ والعلماء، يكون لها رأي استشاري للإدارة، لتعاون الإدارة في الحكم.


وفي اليوم الثاني لدخوله القاهرة، الخامس والعشرين من يوليو 1798م، أنشأ نابليون (ديوان القاهرة)؛ وهو ديوان استشاري، يتكون من تسعة من كبار المشايخ والعلماء، ويرأسه الشيخ عبد الله الشرقاوي (1737-1812م)، لحكم مدينة القاهرة وتعيين رؤساء الموظفين.


أعقب ذلك تم تشكيل (دواوين الأقاليم)؛ التي تشكلت من ديوان لكل مديرية (المحافظة حاليًا)، ويتكون من سبعة أعضاء، ومهمته النظر في المصالح والشكاوى، ومنع المشاحنات بين القرى، وجباية الضرائب والأموال المقررة على الأهالي.


ثم تشكل (الديوان العام)؛ وهو يمثل السلطة المركزية العليا، وتألف من أعضاء ديوان القاهرة ودواوين الديريات، وكانوا من الوجهاء والشخصيات التي لها نفوذ بين الأهالي من أصحاب العلم والكفاءة، وتشكل الديوان العام بواقع تسعة مندوبين عن كل مديرية، وثلاثة علماء، وثلاثة تجار، وثلاثة من مشايخ القرى ورؤوسها، وكان رئيسه الشيخ عبدالله الشرقاوي



، وتم اختياره بالاقتراع السري من الأعضاء، وتمثل هدف الديوان العام في تدريب الأعيان المصريين على نظام مجالس الشورى، من حيث الاستشاري بالدراء فيما يعود على الأهالي بالنفع في مجالات القضاء والمواريث العقارية والضرائب. 


 وكان الغرض من إنشاء الدواوين؛ هو تفعيل الحياة المدنية بالمفهوم الحديث، ومشاركتها جنبًا إلى جنب مع الإدارة والسلطات الحاكمة في البلاد. 


وفكرة الديوان؛ هي إحدى الأفكار الهامة التي صاحبت الثورة الفرنسية، بضرورة تفعيل دور المجتمع المدني، والمشاركة المجتمعية في الإدارة والحكم، وهو قائم على أفكار المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي (چان چاك روسو)، ونظريته المعروفة باسم نظرية (العقد الاجتماعي)، والتي تقوم على أن العلاقة بين الإدارة والشعب؛ تقوم على وجود عقد افتراضي بين الشعب من ناحية، والحاكم والإدارة من ناحية أخرى، التي من مقتضياتها زيادة المشاركة المجتمعية في الإدارة والحكم، وبالتالي؛ فقد كانت المجالس النيابية هي إحدى المقتضيات الأساسية، والمفردات الدارجة بشكل أساسي، والتي واكبت الفترة إبان الثورة الفرنسية، وما واكبها من أفكار وحراك فكري وسياسي، وكان بداية المشاركة المجتمعية في الحكم في فرنسا، وكثير من دول العالم فيما بعد، كما أوضحنا سابقًا بشيء من التفصيل. 


غير أن هذه الديوان المصري؛ لم يتمتع بالسلطة النهائية في أي أمر من الأمور، وإنما كانت سلطة استشارية، ومقيدة بتعهد الأعضاء بعدم القيام بأي عمل يكون موجهًا ضد مصلحة الجيش الفرنسي، وفي الحقيقة لم يكن الغرض من إنشاء هذا الديوان سوى تكريس الاحتلال الفرنسي، والعمل تحت رقابة وأعين السلطات الفرنسية.


وصمم نابليون أن يضع عن كاهل الأقليات الدينية؛ الأعباء الثِقال التي عانوا منها من قبل، فصرح لهم بركوب الخيل بدلًا من الحمير، وأن يحملوا السلاح، ويلبسوا العمامة الوطنية، وألحق بعضهم في تشكيل الدواوين التي أقامها في مصر، وهو انعكاس آخر للأفكار الفرنسية التي واكبت الثورة الفرنسية، وكان لها صدى كبير في فرنسا في حينه، واستمر فيما بعد. 


ومنع نابليون جنوده من السلب والنهب، وحمى حقوق الملكية الموجودة، والذي تثبته عشرات الرسائل والأوامر، وقام بإعدام المجرمين وقطاع الطرق في القاهرة،‏ وأيضًا إعدام جنود فرنسيين ثُبِتَّ إجرامهم في حق الأهالي‏. 


 عقد نابليون اجتماعًا مع علماء الحملة، لوضع الخطط للقضاء على الطاعون، وإدخال صناعات جديدة، وتطوير نظم التعليم المصري، وتحسين القوانين المعمول بها، وإنشاء خدمات بريدية، ونظام مواصلات، وإصلاح الترع وضبط الري، وربط النيل بالبحر الأحمر، ولكنه استمر في تحصيل الضرائب الباهظة التي فرضها العثمانيون الغزاة على أهل البلاد، لتمويل جيشه.


جلس نابليون مع الزعماء المحليين، واعترف باحترامه للشعائر الإسلامية، وإعجابه بالفن الإسلامي، وشهد ألا إله إلا الله، وأصبح حاكمًا مسلمًا، وأُطلق عليه اسم (علي نابليون بونابرت)، ولُقب باسم (بونابردي باشا)، وكان يتجول وهو مرتدي الملابس الشرقية والعمامة والجلباب، ويتردد إلى المسجد في أيام الجمعة، ويسهم بالشعائر الدينية التقليدية بالصلاة، وطلب مساعدة المسلمين له ليعم الرخاء والازدهار مصر. 


كما فطن نابليون إلى أهمية ومكانة علماء الدين، ودورهم القيادي في قيادة الأهالي بعد هزيمة المماليك، فما كان منه إلا أن راح يستميلهم ويتقرب إليهم، أو يُقصي البعض منهم، واعتمد عليهم في تنفيذ سياسته، لإقناع الشعب المصري بقبول الحكم الفرنسي، وذكر الجبرتي في كتاباته أن المشايخ كانوا يتقاضون ما صار بمثابة "أجر معلوم" لهذه الوساطة والشفاعة، وقد اعتمدوا في تعزيز مكانتهم ونفوذهم بين الشعب على دعم صلاتهم بالفرنسيين.


وفي الثاني من أغسطس سنة 1798م؛ هاجم الأسطول البريطاني السفن الفرنسية في خليج أبي قير



، واستطاع تدميره، لتفوق البحرية الإنجليزية وتمرس واحترافية البحارة البريطانيين، ونتج عنها تحطم الأسطول الفرنسي، وتكبده خسائر كبيرة، وإحكام الأسطول الإنجليزي السيطرة على البحار، وخلال المعركة فرض الأسطول الإنجليزي حصارًا على الشواطئ المصرية، المطلة على البحر المتوسط، لمنع وصول أي إمدادات عسكرية أو عتاد إلى الجيش الفرنسي، الأمر الذي اضطر الفرنسيين في مصر إلى الاعتماد على موارد مصر الداخلية، في تدبير شؤونهم وسد حاجياتهم.


وعندما وصلت أخبار هذه النكسة الكاسحة إلى نابليون في القاهرة؛ أيقن أن فتحه لمصر غدا بلا معنى، فالمغامرون المرافقون له قد أُحيط بهم الآن برًا وبحرًا، وما من سبيل لوصول العون الفرنسي إليهم، وأنهم سرعان ما سيصبحون تحت رحمة أهل البلاد المعادين، والبيئة غير المواتية.


منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها جيوش بونابرت أرض مصر؛ اشتعلت نار المقاومة ضد الغزاة، ولم تخمد طوال السنوات الثلاث التي قضتها الحملة الفرنسية في مصر، فمنذ البداية؛ انهزمت قوات الحامية العثمانية وغادرت البلاد، كذلك فشل أمراء المماليك بقيادة مراد بك وإبراهيم بك في التصدى للحملة، وأصبحت القاهرة والدلتا خالية من أي قوات نظامية يمكنها التصدي لحملة بونابرت. 


فانتقل عبء المقاومة إلى الشعب المصري، الذي ابتُليّ بالتجريف الشامل، وبالجمود، والتخلف، وحُرِمّ من حمل السلاح لقرون طويلة.


وقد تصور القائد الفرنسي المظفر؛ أن انتصاره على الاستعمار العثماني والمماليك سيكفل له استقرار الأمور في مصر، أو على الأقل في القسم الأكبر منه، ونشرت الحملة الفرنسية منشورها على أهالي مصر، وهو المنشور الذي سجل نصه المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي: "جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية، فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء، كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا، وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي وأحمر، وكل قرية تقوم على الفرنساوية تُحرق بالنار، وكل قرية تطيع العسكر أيضًا تنصب صنجق السلطان العثماني محبنا دام بقائه"!!. 


وفي هذا الصدد قال (ريبو)، أحد مؤرخي الحملة الفرنسية: "كان الجنود يعملون على إخماد الثورة، بإطلاق الرصاص على الفلاحين، وفرض غرامات على البلاد، ولكن الثورة كانت كحية ذات مائة رأس، كلما أخمدها السيف والنار في ناحية؛ ظهرت في ناحية أخرى أقوى وأشد مما كانت، فكأنها كانت تعظم ويتسع مداها كلما ارتحلت من بلد إلى آخر".


فمنذ البداية؛ وبينما كان نابليون مهتما بإخضاع بلاد البحر الصغير، الكائنة بين المنصورة وبحيرة المنزلة، لتأمين المواصلات بين دمياط والمنصورة، حتى يطمئن على سيطرته على حدود مصر الشرقية، فقصدت الحملة بقيادة الجنرال داماس مدينة (الجمالية) بمحافظة الدقهلية في سبتمبر 1798م، إلا أن السفن الفرنسية قد علقت في البحر الصغير من قلة المياه، فانتهز أهالي الجمالية الفرصة، وهاجموها، وأطلقوا عليها النار، وأمطروها بوابل من الحجارة من أعلى سور بلدتهم، ونزل الفرنسيون من السفن، وحاربوا الأهالي برًا، ثم أحرقوا المدينة، وعادوا إلى المنصورة بجثث قتلاهم، وكانت خسائر الفرنسيين في هذه المعركة تقدر بحوالي خمسة قتلى، وخمسة عشر جريحًا، في حين قُتِلّ من أهالي المدينة حوالي خمسمائة شخص.


وفي الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1798م؛ قام سكان القاهرة بانتفاضة ضد الفرنسيين (انتفاضة القاهرة الأولى)



، لأسباب عديدة، كان أهمها فرض الفرنسيين ضرائب باهظة على المصريين، تكفل إمداد الجيش بالمؤن والأموال، للمحافظة على سيطرته على مصر، بعد تحطم الأسطول البحري الفرنسي وانقطاع الإمداد عنه، وكان قتل حاكم الإسكندرية بتهمة معارضته فرنسا؛ الشرارة التي أشعلت الانتفاضة، مما دفع المصريين إلى الخروج في حشود كبيرة تجمعت حول جامع الأزهر، وانضم إليها المشايخ والعلماء والأئمة، ثم اتسعت وضمت أحياء القاهرة خلال وقت قصير، واشتبك الثوار مع الجنود الفرنسيين، وقتلوا عددًا منهم. 


وفي الثاني والعشرين من أكتوبر 1798م؛ توافد سكان الريف على المدينة، ودار قتال عنيف مع الجيش الفرنسي، وقُتِلّ رئيس أركانه، فبدأت المدفعية الفرنسية تضرب المدينة، والثوار، والجامع الأزهر، والأحياء المجاورة له، وقُتِلّ أكثر من أربعة آلاف من أهالي مصر، فأمر نابليون بقمع الثائرين، وتخلى لفترة عن دور الفاتح المتسامح، وأمر بأن تقوم المدافع الموجودة على جبل المقطم بضرب القاهرة، فدكت متاريس وتحصينات الثوار، ثم أمر بضرب الأزهر لكونه مركز الانتفاضة،



ودخلت الخيول الفرنسية الأزهر الشريف، وقتل الجنود كل من وجدوه أمامهم، وتم حرق الكتب، وبعد أن رأى شيوخ الأزهر هذا الوضع الكارثي؛ توسلوا إلى نابليون حتى يأمر بوقف القمع... فوافق.


وفي الثالث من مارس 1799م؛ وقعت معركة سمهود (إحدى قرى مركز أبوتشت) شمالي محافظة قنا، وقادها مراد بك، وانضم إليه أعداد غفيرة من أهالي الصعيد الثائرين من الشلالات (جنوب أسوان حتى حلفا) حتى جرجا، وأصبح جيش مراد بك مكونًا من ألفين من المماليك، وسبعة آلاف من الفرسان المصريين، وثلاثة آلاف من المشاة المصريين، بالإضافة إلى ألفين من العربان، وبذلك أصبح قوام الجيش ما يربو على أربعة عشر ألف مقاتل، وعلى الجانب الآخر كان الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال ديزية مكونًا من خمسة آلاف مقاتل من المشاة والفرسان، وأربعة عشر مدفعًا، وعبارة بحرية في النيل، وانتصر فيها الفرنسيون، ليواصلوا الزحف مباشرةً لأسوان من الجانب الغربي للنيل.


وفي العاشر من أبريل 1799م؛ وقعت (معركة جهينة) جنوبي مصر، عندما هاجمت الحملة الفرنسية عدة مدن وقرى في محافظة سوهاج، واستمات جميع أهالي جهينة في الدفاع عن بيوتهم ومناطقهم، وقضوا على الكثير من الفرنسيين، وهرب من تبقى منهم، مما أجبر الحملة كاملة على التراجع من مدن وقرى المحافظة.


وفي الثامن عشر من أبريل 1799م؛ اندلعت (معركة قرية بني عدي) التابعة لمركز منفلوط في محافظة أسيوط جنوبي مصر، تحت قيادة الشيخ حسن الخطيب، حيث اجتمع ما يزيد على ثلاثة آلاف من الأهالي، وثلاثمائة من المماليك، لمواجهة القوات الفرنسية، التي سارت إليهم بقيادة الجنرال دافو، بهدف الاستيلاء على بني عدي، وحين وصل الجنرال دافو وجنوده إلى بني عدي؛ وجدوا الأهالي جميعًا حاملين السلاح، واستبسلوا في التصدي لهجمات الجيش الفرنسي، وحين شعر الفرنسيون بالعجز؛ شرعوا في حرق القرية، وأضرموا النار في بيوتها، لتتحول إلى شعلة من النار، وبهذه الوسيلة نجح الفرنسيون في الدخول إلى بني عدي بعد أن أصبحت رمادًا، وسلبوا ونهبوا الكثير من الأموال والكنوز.


وعندما سمع نابليون أن العثمانيين يعدون جيشًا لاستعادة مصر؛ صمم على مواجهة التحدي، فأعد ثلاثة عشر ألفا من رجاله، وانطلق إلى الشام في العاشر من فبراير سنة 1799م،




واستولى على العريش، وأتم عبور صحراء سيناء، وتجدر الإشارة إلى رسالة تهنئة بتاريخ السادس والعشرين من‏ فبراير ‏1799‏م، تحت رقم‏4262‏، من نابليون للجنرال مينو‏، على قيامه بإلقاء خطبة الجمعة كمسلم، في مسجد غزة، في أثناء حملته على الشام‏، ويقول له:‏ "إن أفضل الطرق للحفاظ على السلم في مصر؛ هو تبني عقيدة الإسلام، أو على الأقل عدم معاداتها، واجتذاب ود شيوخ الإسلام، ليس فقط في مصر؛ بل في سائر العالم الإسلامي". ويبين لنا خطاب كتبه نابليون في السابع والعشرين من فبراير بعض جوانب محنة رحلة الشام: "... حرارة، وعطش، وماء غير عذب تعتريه ملوحة، وأحيانًا لا ماء أبدًا، لقد أكلنا الكلاب، والحمير، والجمال". ولكنهم وجدوا في غزة، بعد معركة قاسية، خضراوات طازجة وبساتين ذوات فواكة لا مثيل لها.


وفي الثالث من مارس 1799م؛ توقفت القوات الفرنسية أمام مدينة (يافا)، ذات الأسوار، والسكان المعادين، وحصن يدافع عنه الفان وسبعة مقاتل عثماني، فأرسل نابليون يعرض عليهم شروطًا، لكنهم رفضوها، وفي السابع من مارس أحدث المهندسون العسكريون الفرنسيون في أسوار المدينة ثغرة، اندفع الجنود خلالها، فقتلوا من قاومهم من السكان، وسلبوا المدينة. 


وأرسل نابليون يوجين دي بوهارنيه لإعادة النظام في مدينة رفح، فعرض حق الخروج الآمن لكل من يستسلم، وسلم جنود الحصن أسلحتهم، حتى لا يلحق الفرنسيون مزيدًا من الدمار في المدينة، وسيقوا أسرى إلى نابليون، فرفع يديه فزعًا وتساءل: "ماذا يمكنني أن أعمل معهم؟"، فلم يكن نابليون يستطيع أن يأخذ ألفين وسبعة أسير معه في مسيرته تلك، فالرجال الفرنسيون بذلوا قصارى جهدهم ليجدوا الطعام والشراب لأنفسهم، ولا يمكنه تدبير عدد كاف من الحراس لاصطحاب هؤلاء الأسرى ليُسْجَنّوا في القاهرة، وإذا هو أطلق سراحهم فما الذي يمنعهم من حرب الفرنسيين ثانية، فعقد نابليون اجتماعًا عسكريًا، وسألهم عن رأيهم في هذه المشكلة، فكان رأيهم أن أفضل حل هو قتل هؤلاء الأسرى، فتم الصفح عن نحو ثلاثمائة منهم، وقُتِلّ ألف وأربعمائة واثنان وأربعون طعنًا بالحراب لتوفير الذخيرة.


وفي الثامن عشر من مارس 1799م؛ وصل الفرنسيون إلى مدينة (عكا) شديدة التحصين، وكان يقود المقاومة أحمد باشا الجزار



، يساعده أنطوان دي إنفيليبو، الذي كان زميلًا لنابليون في الدراسة في بريين، وفي العشرين من مايو 1799م، بعد أن قضى الفرنسيون شهرين أمام أسوار المدينة، وتكبدوا خسائر فادحة، أمرهم نابليون بالعودة إلى مصر.


وقد ذكر نابليون بعد ذلك متفجعًا: "إنفيليبو جعلني أتراجع عن عكا، فلولاه لأصبحت سيد مفتاح الشرق، ولأمكنني الذهاب إلى القسطنطينية، واستعادة الإمبراطورية الشرقية"، وذكر نابليون عام 1803م لمدام دى ريموسا: "لقد مات خيالي عند عكا، لن أسمح لها أبدًا بالتداخل معي مرة أخرى".


كانت العودة إلى مصر على طول الساحل في أيام شاقة متوالية، لقد كان الجيش أحيانًا يقطع مسيرة تصل إلى إحدى عشرة ساعة يوميًا، بين آبار لا يُشْرّب ماؤها، وفي معظم الحالات يسمم البدن، ولا يكاد يطفىء عطشًا، وطلب نابليون من أطباء الحملة تدبير جرعات مميتة من الأفيون، للقضاء على المصابين بأمراض لا شفاء لها، لكن الأطباء رفضوا، وسحب نابليون اقتراحه، وأمر بالتخلي عن ركوب الخيل، وتركها للمرضى، وجعل من نفسه قدوة لضباطه، بسيره على قدميه تاركًا حصانه لمريض، وفي الرابع عشر من يونيو؛ دخل الجيش الفرنسي المُنهك مدينة القاهرة دخول المنتصر، وعرض سبعة عشر علمًا من أعلام الأعداء، وستة عشر أسيرًا عثمانيًا، كدليل أن الحملة قد حققت نصرًا يدعو للفخر، وكان دخولهم القاهرة بعد رحلة شاقة، قطعوا فيها ثلاثمائة ميل، في ستة وعشرين يومًا.


وأخيرًا؛ بعد أن تيقن الاحتلال الأسبق (العثمانيون)؛ من تهاوي فرص الفرنسيين للاستيلاء على مصر، شكلوا جيشًا عثمانيًا لطرد الفرنسيين من مصر، وفي الحادي عشر من يوليو 1799م؛ أُنزلت مائة سفينة على ساحل خليج أبي قير، فخرج نابليون من القاهرة متجهًا شمالًا على رأس أفضل جنوده، وانقض على الجيش العثماني، ودارت (معركة أبي قير البرية)





في الخامس والعشرين من يوليو 1799م، فألحق به هزيمة منكرة، حتى إن كثيرين من العثمانيين فضلوا الاندفاع إلى البحر ليموتوا غرقى، بدلًا من مواجهة الفرسان الفرنسيين المندفعين بعنف.


ومن الصحف الإنجليزية التي أرسلها سيدني سميث إلى نابليون؛ علم أن التحالف الأوروبي الثاني قد طرد الفرنسيين من بروسيا (ألمانيا حاليًا)، وأعاد الاستيلاء على إيطاليا كلها تقريبًا، من الألب إلى كالابريا. 


إن صروح انتصاراته كلها قد انهارت، عبر سلسلة من الكوارث، من الراين وبو إلى أبي قير وعكا!!.


والآن؛ وجد نفسه، وجيشه الذي هلك جانب كبير منه، وقد حُوصروا في ممر يحيط به الأعداء، حيث يمكنهم محق الفرنسيين في غضون وقت قليل.


وفي نحو منتصف شهر يوليو 1799م؛ تلقى نابليون من حكومة الإدارة أمرًا، كان قد أُرسل له في السادس والعشرين من مايو 1799م، مؤداه أن يعود إلى باريس فورًا، فصمم على العودة إلى فرنسا، ونظم الأمور العسكرية والإدارية في القاهرة، وعين (كليبر)



ليكون على رأس ما تبقى من حلم فرنسا في ضم مصر إليها.


وكان نابليون يدرك الأوضاع المزرية الذي وصلت إليه أوضاع حملته على مصر، ولم يكن يستطيع تبرير مغادرته مصر إلا بالقول إنه مطلوب في باريس، ولديه أمر بالعودة، وعندما كان يودع جنوده رفع صوته قائلًا:

"إذا حالفني الحظ، ووصلت إلى فرنسا؛ فلا بد أن ينتهي حكم هؤلاء الثرثارين الحمقى"

، على أن أشد هذه الوثائق إثارة؛ هي الوثائق الأخيرة التي وقعها قبل رحيله عن مصر‏،‏ ومنها وصيته للجنرال كليبر رقم‏ 4758‏ بتاريخ الثاني والعشرين من‏ أغسطس‏ 1799‏م، ثم وثائق أخرى تثبت أنه كان ينوي بعد عودته إلى فرنسا إرسال تعزيزات وجيشًا جديدًا لمصر‏، ولم يصل هذا الدعم أبدًا!!، ومما يُذكَّر أن نابليون كان قد وعد في وقت سابق؛ أن يقدم لكل جندي من جنوده ستة هكتارات من الأرض، بعد أن يعودوا ظافرين إلى بلادهم.


وكانت الفرقاطتان مويرو، وكارير؛ قد أفلتتا من الإبادة التي ألحقها الأسطول البريطاني بالأسطول الفرنسي في أبي قير، فأرسل نابليون أمرًا بتجهيزهما، في محاولة منه للوصول إلى فرنسا، وفي الثاني والعشرين من أغسطس سنة 1799م؛ ركب السفينة مويرو، ومعه كل من بورين وبرثولي ومونج، وتبعهم الجنرالات لان ومورا، ودينو، وغيرهم بالسفينة كارير، وبسبب الضباب وحسن الحظ أفلتت السفينتان من مراقبة جواسيس نلسون وأسطوله البريطاني، ولم يستطع نابليون ومن معه التوقف في مالطا، لأن البريطانيين المنتصرين كانوا قد استولوا على هذا الموقع الحصين في التاسع من فبراير 1799م، وفي التاسع من أكتوبر 1799م؛ رست السفن إزاء فريجو، وجدف نابليون ومساعدوه حتى الشاطىء عند سان رافائيل، ليعود نابليون إلى فرنسا سرًا، رغم الحصار البريطاني، ويشق طريقه إلى السلطة، وليعزل القادة المخطئين الذين سمحوا بضياع مكاسبه كلها في إيطاليا بهذه السرعة، والآن إما أن يكون "القيصر أو لا أحد".


وجد كليبر الخزانة خاوية، بالإضافة إلى كونها مدينة بستة ملايين فرنك، فقد كانت هناك متأخرات للجنود، وصلت قيمتها إلى أربعة ملايين فرنك، وكان عدد الجنود الفرنسيين يتناقص يوما بعد يوم، وكذلك معنوياتهم، بينما أهل البلاد المقاومون يزدادون قوة، ويتحينون الفرصة للقيام بانتفاضة أخرى، وكان من الممكن في أي وقت أن يرسل العثمانيون وبريطانيا العظمى قوات عسكرية إلى مصر، يمكنها [بمساعدة البعض من أهل البلاد] عاجلًا أم آجًلا إجبار الفرنسيين على التسليم. 


وفي العشرين من مارس 1800م؛ انتفض المصريون للمرة الثانية (انتفاضة القاهرة الثانية) أثناء انشغال كليبر بقتال العثمانيين، وكان العلماء والتجار والأئمة والأعيان في صفوف الثوار، إلا أن الجنرال كليبر انتهى من قتال العثمانيين، وعاد إلى القاهرة وحاصرها، ودك المدينة بالمدفعية، وانتهى الحصار بهدنة يوم الحادي والعشرين من أبريل 1800م، كان من بنود الهدنة خروج العثمانيين وجنودهم من مصر، وكذا قسم من المماليك وكثير من أبناء أهل مصر، وعُوقب الشعب بفرض غرامة ضخمة عليه، مما زاد الأوضاع الاقتصادية سوءًا.


وهكذا؛ واجهت الحملة الفرنسية على مصر مواجهة شديدة، وعداءً صارخًا، من الشعب المصري.


وفي يوم السبت الرابع عشر من يونيو 1800م، وأثناء سير الجنرال كليبر بصحبة المسيو بروتان، المهندس المعماري وعضو لجنة العلوم والفنون، خرج عليهما رجل واقترب من كليبر وطعنه أربعة طعنات بالخنجر، إحداها مميتة نفذت إلى القلب



، وبعد ساعة من ارتكاب الجريمة؛ عثر الفرنسيون على القاتل سليمان الحلبي، وهو طالب شامي كان يدرس بالأزهر الشريف، وأُحيِلّ للمحاكمة، وصدر الحكم يوم السادس عشر من يونيو 1800م؛ بإحراق يد سليمان الحلبي، ثم إعدامه على الخازوق، وترك جثته تأكلها الطير، وإعدام شركائه الأربعة بقطع رؤوسهم، وإحراق جثثهم بعد الإعدام.


وبعد مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي؛ تسلم الجنرال جاك فرانسوا مينو (أو عبد الله جاك مينو)، بعد أن أظهر أنه أسلم، ليتزوج من امرأة مسلمة، كانت تُسمَّى زبيدة



، ابنة أحد أعيان رشيد؛ قامت القوات الإنجليزية والعثمانية بحصار القاهرة، وقطع المؤن والذخائر عنها، مما اضطر الفرنسيين إلى إجراء مفاوضات يوم السابع والعشرين من يونيو 1801م، وفي الثالث والعشرين من يوليو 1801م، خرجت الحملة الفرنسية من القاهرة متجهة إلى الإسكندرية، ثم حاصر الجيش الإنجليزي الإسكندرية، وقطع عنها المؤن. 


اضطر الفرنسيون إلى الدخول في مفاوضات، وتوقيع قرار جلائهم يوم الحادي والثلاثين من أغسطس 1801م، على أن يخرجوا من مصر بعد عشرة أيام من توقيع القرار، بكامل عدتهم، على متن السفن الإنجليزية، وبذلك قُضِيّ نهائيًا على حلم نابليون.


ورغم عظمة الدور الذي قامت به (البعثة العلمية) التي رافقت الحملة؛ إلا أنها عجزت عن أداء رسالة تنويرية في وادي النيل، الغارق في ظلام القرون الوسطى إبان الاستعمار العثماني.

 

ومما لا شك فيه؛ أن البحوث القيمة التي قام بها العلماء الفرنسيون في شتى حقول المعرفة؛ كانت تخدم في المقام الأول الأهداف الحربية السياسية، التي خططت لها الدوائر الاستعمارية في باريس. 


لقد بدأ الفرنسيون بطبع المنشورات والأوامر بالعربية، وهم على سفنهم في عرض البحر، وبعد أن وطأت أقدامهم أرض مصر؛ أنشؤوا (المطبعة الفرنسية)، وفي التاسع والعشرين من أغسطس 1798م؛ أمر نابليون بإصدار الجريدة الرسمية السياسية، الناطقة بلسان الجيش الفرنسي، بعنوان (بريد مصر)، وكانت تصدر كل خمسة أيام، وصدر منها مائة وستة عشر عددًا، تبعتها جريدة باسم (العشاري المصرية) الناطقة بالفرنسية أيضًا، وكانت تصدر كل عشرة أيام، وهي لسان حال البعثة العلمية المرافقة للجيش الفرنسي، وكان قراء هاتين الجريدتين أساسًا من الفرنسيين المرافقين للحملة العسكرية، فضلا عن الدوائر الحاكمة في باريس، وهو ما أكده الجبرتي، حيث ذكر أن نابليون أنشأ جريدتين، كانت الأولى باسم (بريد مصر) والثانية باسم (العشاري المصرية).


كانت الصحيفة العربية الأولى التي نشرها الفرنسيون بتاريخ السادس من ديسمبر 1800م، ولكنها لم تعمر طويلًا، وكان الهدف الرئيس لنشرها إيصال الأوامر والتعلميات العسكرية الصادرة عن القيادة الفرنسية إلى المصريين، وقد اعتنى بنشرها الجنرال الفرنسي جاك فرانسوا مينو، أما محررها فكان إسماعيل بن سعد الخشاب. 


قام مائة وستة وأربعون من العلماء الفرنسيين؛ بتاسيس مدرستين لتعليم أبنائهم المولودين في مصر على الطراز الأوروبي، وأنشؤوا مرصدًا فلكيًا، ومسرحًا للتمثيل، ومركزًا للطب والصيدلة، ومستشفى من خمسمائة سرير، وخدمة (الحجر الصحي)، ومخبرًا كيميائيًا، ومعرضًا للرسم، وحديقة للحيوانات، ومتحفًا للتاريخ الطبيعية، وسلاح الهندسة، وورشات لإنتاج المواد الاستهلاكية، والعديد من الصناعات، والمعامل، والطواحين... وغيره.


وفي يوليو سنة 1799م؛ نُظِمّ (المعهد العلمي المصري)، من علماء الحملة وبعض المصريين، وكان العلماء هم الذين أعدوا الأربعة والعشرين مجلدًا الضخامًا، التي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان (وصف مصر)، وقام أحد هؤلاء العلماء الفرنسيون اسمه بوشار باكتشاف (حجر رشيد)



في مدينة رشيد، عليه نقوش بلغتين وثلاثة خطوط (الهيروغليفية، والديموطيقية، واليونانية)، وهو اكتشاف أثري تاريخي عظيم، حيث مكنت هذه الكتابات كلًا من توما يونج، وفرنسوا شامبليون، من وضع أسس منهج ترجمة النصوص الهيروغليفية، ففتحوا بذلك أمام أوروبا الحديثة أبواب حضارة مصر القديمة، المركبة والناضجة بشكل يدعو إلى الدهشة، كما حظيت منطقة (الطود) الأثرية بصعيد مصر باهتمام بالغ إبان الحملة الفرنسية على مصر.


كان هذا المعهد العلمي صورة مصغرة لجامعة العلوم الأوروبية، وقد ترأس إدارته العالم الفرنسي مونج؛ واضع أسس الهندسة التصويرية، ومؤسس معهد البوليتكنيك في باريس، وكان بونابرت نائبًا للرئيس، والرياضي الشهير لافوربيه؛ أمينًا للمعهد، وهو الذي أطلع شاملبيون على الآثار الفرعونية، فكان الأخير أول من فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية على حجر رشيد كما أوضحنا، كما عمل في المعهد المذكور أكثر من ثمانية وأربعين عالمًا من أشهر علماء أوروبا والعالم آنذاك.


كان هدف نابليون من إنشاء المعهد المصري؛ يتركز من جانب في أداء رسالة تثقيفية حضارية، تمثلت في نشر منجزات العلم والتقنية الأوروبيين بين أبناء الشعب المصري، ومن جانب آخر الاستفادة من التراث العربي الإسلامي القروسطي في مجال تطوير العلم الفرنسي. 


وقد تكللت جهود العلماء الفرنسيين بالنجاح الكامل فيما يخص الجانب الثاني؛ فهم لم يكتفوا بوضع جداول مقارنة بين المقاييس والأوزان الفرنسية والمصرية، وتاليف كتاب محادثة فرنسي عربي، وتقويم توافقي مصري قبطي أوروبي؛ بل أيضًا جمعوا وحققوا المخطوطات العربية القديمة، ودرسوا دراسة دقيقة التاريخ المصري القديم، والحضارة الفرعوينة، والإثنوغرافية، والفولكلور، والجغرافيا، وعلم النبات، والحيوان، والمعادن، وغيرها من حقول العلم والمعرفة. 


كما أنهم توصلوا إلى فكرة مشروع شق قناة بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وخططوا الملاحة طوال العام في نهر النيل، وإنشاء قنوات الري، وتأمين مياه الشرب، والقضاء على الأمراض والأوبئة المتفشية، وزراعة المحاصيل الزراعية الجديدة، وغيرها من المشاريع التي وجدت طريقها إلى التنفيذ في وقت قصير جدًا، كما أعاروا انتباهًا خاصة لترميم الشوارع وإنارتها في كل من القاهرة والإسكندرية، فضلا عن تحسين ظروف العمل والمعيشة فيهما، وقد ظهرت نتائج دراستهم في أربعة وعشرين مجلدًا ضخمًا من كتاب (وصف مصر).


ورغم أن الغالبية العظمى من علماء ورجالات الأزهر رفضوا إغراءات نابليون لهم، بتقلد المناصب السامية وإدارة أمور البلاد، فضلًا عن الاستمتاع بالخيرات؛ وقاطعوا قيادة الحملة الفرنسية، إلا أن نفرًا من الأزهريين وجدوا حظوة لدى نابليون، وكان على رأس هؤلاء الشيخ الفقيه العلامة عبد الله الشرقاوي (1737-1812)، الذي تولى مشيخة الأزهر، فانصب كل جهده على تخليص البلاد من نير الحكم العثماني وتسلط المماليك، وأقامه الفرنسيون رئيس الديوان لإجراء الأحكام، وانتفع في أيامهم، ومن أشهر مؤلفاته (تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين)، اختتمه بوصف خروج الفرنسيين وعودة المُستعمِرين العثمانيين، وكان بين هؤلاء المشايخ عبد الهادي بن محمد المهدي (أمين الديوان)، وخليل البكري، ومصطفى الدمنهوري، وإسماعيل الزرقاني، وغيرهم، وكان من بينهم أيضًا المؤرخ الشهير الجبرتي (1753-1825)، الذي وضع كتاب (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)



في أربعة أجزاء، ونُسِبّ اليه كتاب (مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس).


ومثال الجبرتي؛ دليل كافي على الأثر الايجابي الذي تركته الحملة الفرنسية على الحياة الثقافية في مصر، فلما ملك الفرنسيون عُيِنّ الجبرتي كاتبًا في الديوان، فاختلط الشيخ بالعلماء الفرنسيين، وحدث نوع من الانقلاب الفكري في تصورات الشيخ عن مستويات العلوم والتقنية في أوروبا، وبينما كان في الماضي هو وأبناء بلده مأخوذين بالنقالة، التي استخدمها الفرنسيون بدلًا من السلال، لنقل التراب ومواد البناء الأخرى، أخذ الشيخ يزور غرفة المطالعة في المكتبة التي تستحق كل الاعجاب، فكان يطلع على الكتب النادرة، ويحضر التجارب في المخابر العلمية، التي كانت نتائجها كما قال: "عصية الفهم وعسيرة المنال لعقول مثل عقولنا"، كما ترك القضاء الفرنسي المرتكز على مبادئ العقل انطباعًا عظيمًا واخاذًا في نفس الشيخ، الذي اعتاد على القضاء الخاضع لأحكام الدين والشريعة.


أما صديق الجبرتي الشيخ حسن بن محمد العطار (1766-1835م)،



الذي أحذ عن كبار مشايخ الأزهر، وفر من القاهرة إلى الصعيد، خشية من الفتن التي نجمت عن دخول الفرنسيين، فقد عاد أدراجه اليها، واتصل بعلمائهم، فاستفاد منهم العلوم العصرية الشائعة في بلادهم، وعلمهم اللغة العربية، ثم عمل موظفًا في دار النشر الفرنسية، وكان العطار قد تاثر أكثر من جميع أقرانه بالتقدم الأوروبي، الذي تجلى في أروع صوره من خلال أفكار وتأليف العلماء الفرنسيين في مصر، وكان من أول من اقتنع بالتأخر الشرقي المهيمن في صفوف الأزهريين، وكان العطار يطلع أصدقائه على المعارف الواسعة في بطون الكتب الفرنسية، وكان شغوفًا جدًا بترديد العبارة التالية: "يجب أن تتغير بلادنا، وعلينا اقتباس العلوم الأوروبية الجديدة علينا"، وينبغي التذكير هنا؛ أن العطار رغم اتصاله الوثيق بالفرنسيين؛ لم يتخل في الواقع عن أحلامه بطرد الفرنسيين من البلاد.


وقد اطلع العديد من المصريين الذين تمكنوا من الاتصال بالفرنسيين بأية وسيلة من الوسائل المتاحة، ومن بينهم بعض المشايخ الذين اشتغلوا مباشرة أو مستقبلًا في الوظائف الإدارية، مثل الشيخ عبدالهادي المهدي، أو حتى بعض القراء الذين كانوا يطالعون الجريدة العربية الصادرة آنذاك، اطلعوا على مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى (جمهورية - حرية - مساواة - عدالة)، وعلى الأفكار الجديدة، ولاسيما التشديد على فكرة (الأمة العصرية)، التي ظهرت للمرة الأولى في الواقع المصري.


وقد كان الاحتكار الشديد من المصريين للفرنسيين الغزاة؛ العقبة الكبرى أمام نشر العلوم الفرنسية والأوروبية الجديدة في مصر، وإذا كان مصدر الحقد كامنًا بادئ ذي بدء؛ في العداء السافر للمحتلين الفرنسيين، دفاعًا عن معتقداتهم الدينية، ومبادئ حب الوطن، فإنه تحول في القريب العاجل إلى تحد ظاهر لاساليب العنف، والقمع، التي مارسها الاستعماريون الجدد، فضلا عن الإهانات التي كانوا يوجهونها إلى تقاليد المصريين، وعاداتهم، وقيمهم الأخلاقية..... ونستكمل.



المراجع:

01- كتاب (الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر) - تأليف محمد فؤاد شكري، صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2013م.

02- كتاب (الحملة الفرنسية على مصر) - تأليف محمد عودة - دار الثقافة الجديدة 1999م.

03- كتاب (وثائق الحملة الفرنسية 1798م) - تأليف محمد عبد الحميد الحناوي - موقع (كتبي PDF).

04- كتاب الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) - مؤسسة هنداوي إصدار 2012م.

05- كتاب (مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية) - تأليف جوزيف ماري - ترجمة كاميليا صبحي - الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 1012م.

06- كتاب (الحملة الفرنسية في مصر.. بونابرت والإسلام) - تأليف هنري لورنس - ترجمة بشير السباعي - دار سينا للنشر 1995م.

07- كتاب (مصر: ولع فرنسي) - تأليف روبير سوليه - ترجمة لطيف فرج - مكتبة الأسرة 1999م.

08- كتاب (ليل الخلافة العثمانية الطويل.. سيرة القتل المنسية) - محسن عبد العزيز - صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2021م.

09- كتاب (مصر في العصر العثماني 1517-1798م) - كمال حامد مغيث - مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان 1996م.

10- كتاب (تاريخ مصر الإسلامية) - جمال الدين الشيال - دار المعارف - القاهرة 1966م.


...

بقلم

محمد السني



https://www.facebook.com/mohammed.sony.54?mibextid=ZbWKwL




تعليقات