إطلالة نقدية لقصيدة للشاعرة حوراء الهميلي بقلم الكاتب العراقي محفوظ فخري

 



أصدقائي الكرام

تحية طيبة لكم جميعا

يطيب لي أن أدعوكم لتشاركوني متعة السياحة في نص شعري جميل نشرته الشاعرة حوراء الهميلي قبل أيام قليلة ،أجد فيه تجربة غنية جديرة بالتأمل،

   لعل أسمى غاية يرجوها الكاتب عموما هو أن ينقل تجربته الحياتية الى جمهوره المتلقي بغية إحداث شراكة ما بينهما تكون جسرا للتواصل ومعبرا لانتقال الوعي و إنضاج  وإثراء الأفكار. 

 وقد قدمت الشاعرة نصا ثريا بالرؤى التي ضمنتها في قصيدتها ، ودعتنا الى المشاركة في خوض تجربتها الروحية الجميلة التي أخذتنا من خلالها إلى مقامات مثل مقامات المتصوفين وهم يرتقون من منزلة إلى منزلة اعلى لكي يحققوا القرب بالحبيب والذوبان فيه .

(وتفتح أزرار غرفتنا للسماء

فنسبح في ملكوت بعيد

هناك في ردهات الجنان

نعبئ ارواحنا بالنبيذ ).

     قادتنا الشاعرة برفق الى الدخول في عالم قصيدتها بهدوء ورِّقة عبر استخدامها تفعيلات البحر المتقارب الهادئة التي تنساب مثل زورق يشق طريقه بهدوء في( نهر وحيد هادئ) .

(أدرب روحي على أن تزورك

شفافة لا ترى عبر ثقب الجدار

وليس لها في انعكاس المرايا خيال

تغادر من جسدي بهدوء

وتسبح فوقي

(أدرْرِ= فعولُ)  (ب روحي= فعولن) (على أن = فعولن) (تزورَ= فعولُ) (كَ شف فا= فعولن) (فتن لا= فعولن) (ترى عب = فعولن) (رَ ثقبل= فعولن) (جدارِ= فعولُ ….)

      تقدم الشاعرة لنا تجربة نفسية تتكرر كثيرا في مجال علم النفس والتنويم المغناطيسي ( الإيحائي),  قد يسميها البعض تجربة الإسقاط النجمي ( لمن يعرف هذا المصطلح) ، والذي خلاصته أن الإنسان وعن طريق تمرينات الاسترخاء والتنفس العميق قد يفلح في أن يمدد وعيه ويجعله يتجول خارج جسده و يسافر لأي مكان يقترحه هو - أو من يساعده في هذا الأمر - وهذا الوعي المتمدد يسميه البعض ظاهرة خروج الروح من الجسد  ، وهذا ما قدمته لنا الشاعرة تفصيليا .

     ( أرى مشهدا ساحِرا بين شكل الوجود وشكل العدم 

لعمري الذي يُبتدا بالصراخ

وسرعان في صمته يُختتم

حراك / سكون

ولا شيء بينهما غير خيط رفيع

جسدي غارق في الجمود

وروحي تموج بهالتها

وتعبر من زخرفات الستائر

هذا التخفف يعجبها

في الهزيع الأخير

تلوح لي ثم عني تغيب )

     هذه الرحلة الروحية والتي هي أشبه بتجربة المريد الصوفي الذي يتوق الى السياحة في العالم العلوي عالم الأرواح والنقاء بعيدا عن العالم المادي الثقيل،الكثيف ، الجامد المظلم . هذه التجربة حدثنا عنها فريد الدين العطار في رحلته العجيبة المذهلة في رائعته (منطق الطير ) وصولا الى حضرة كبير الطيور المسمى ( السيمرغ) و لحظة التجلي التام للحق أمام ال ( سي مرغ = ثلاثون طيرا) .عبر اجتياز المصاعب والأهوال . وحدثنا عنها جلال الدين الرومي في رحلته الروحية مع مرشده شمس الدين تبريزي والتي أودعها في ديوانه الضخم (كليات شمس تبريزي) 

(شمس تبريزي بدورت

هيچ کس هشیار نیست

کافرو مؤمن خراب 

وزاهد وخمار مست 

يا شمس التبريزي بحضورك

لا يوجد أي شخص عاقل ذي فهم

فالكافر والمؤمن فاسدان

الزاهد والخمّار كلاهما سكران)

وهي ذات التجربة التي تحدث عنها أمير خسرو دهلوي و حافظ شيرازي وجامي ومن قبلهم الحلاج و الشبلي والجنيد والبسطامي وغيرهم من أقطاب التصوف.

( وفي رحلة البحث عنك

تقول لي الروح

قبيل الوصول

مررت على قرية

والندى الرطب يكسو الحشائش

كان الضباب كثيفا يعم المكان

تسلل لي صوت شيخ يصلي النوافل

في صوته المتهدج

ثقل الجبال ورقة نهر وحيد

وقفت طويلا

أعاين شكل الخشوع )

المرحلة الأولى التي زارتها الروح المتموجة ب (هالتها) التي تتجول بحرية وخفة خارج الجسد (الغارق في الجمود) هي مرحلة قد تبدو، مرضية للبعض ، حيث الخشوع ،ولكن روح الشاعرة تتوق الى لقاء الحبيب والهيام في سبحات وجهه والذوبان في لجة أنواره ، فلا مجال للبقاء في هذه المرحلة المعيقة للتكامل الروحي رغم ثرائها الظاهري ، لتنطلق محلقة بعيدا وتدخل عالما حسيا آخر ،عالم البهجة المادية وما توفره من رضا وسكينة ،وهنا نجد (الروح تضحك في سرها وتمضي) مفارقة هذا المكان بكل ملذاته وطيب سكره 

(مررت على النخل أيضا

تهمهم عصفورة وهي توقظ جارتها:

رُطب يافع فاستفيقي

نذق طيب سكّره

قبل وقت (الصرام)

وقبل دخان (الطبينة)

قبل مجيء المزارع

وقبل شواء الظهيرة)

وبعد هذه المرحلة المؤقتة تنقلنا الروح معها الى محطتها الأخيرة التي هي الغاية والنهاية،فقد وصلت الى معدن (الجمال البريء)

(في بركة الروح تسبح احلامنا البيض

تغطس نورسة في المنام.

….

شفاهي قبرة إذ تحط عليك

….

الى اين يذهب قلبي في صيف يوليو

وكل الزوايا تحيل اليك)

في المقاطع الأخيرة للقصيدة ترسم الشاعرة صورا جميلة للقاء المرتقب بين الحبيبين او بالأحرى بين روحي الحبيبين في عالم الخيال المحض حيث تنطلق الروح متحررة من قيودها المادية والمنطقية وما فرضته اللوائح الاجتماعية على الجسد المبتلى بالقيود والتابوهات ، وتنطلق الشاعرة 

( محملة بـ العناق الأخير سآتيك

والكحل مرتعش في الجفون

سآتيك شامخة

كالنخيل المرابط وسط بلادي

كماء العيون التي لا تجف

بدعوة امي التي باركتني

سألتف حولك…

….

ملتحمين معا في العناق الأخير

سآتيك).

هذه التجربة الروحية -تجربة التجوال الروحي خارج الجسد ، تجربة الإسقاط النجمي ، تجربة تمدد الوعي - جعلت الشاعرة تكتشف وجودها الأكثر ثراءا لأنها تجلت أمام حبيبها 

( ترفرف عيناك حولي فراشا يحط على كتفي 

وأنت تحدق خلف العيون 

ترى جبلا قد كسته الثلوج

ترى أيكة وحدها في التلال

ترى بذرة طوحتها السيول

ترى قمرا لا ينام

وأيضا ترى

طفلة في البراري تهيم)

حاولت الشاعرة عبر قصيدتها ان تتقيد ب(إيقاع) البحر المتقارب الهادئ (فعولن فعولن فعولن .. ) غير أن بعض الأسطر خرج على هذا الإيقاع ، 

وقدمت الشاعرة صورا كثيرة معبرة ،ولكنها تفاوتت في جودة التعبير فهي تارة تحلق عاليا ولكنها تنحدر فجأة وبصورة مفاجئة تجعل القارئ يفز متحيرا  بعد أن كان غارقا في حلم لذيذ

والقصيدة تنتمي إلى القصائد ذات التفعيلة الواحدة التي شاعت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي والتي توارت أمام تيار قصيدة النثر الدافق ، وبالتالي فهي لا تقدم على صعيد الشكل أية تجربة جديدة يمكن ان تشكل إضافة نوعية إلى الشعر الحديث. وكنت اتمنى ان الشاعرة استبدلت (يوليو)ب (تموز) في نصها:

(الى اين يذهب قلبي في صيف يوليو)

ليكون:

(الى اين يذهب قلبي في صيف تموز) فدلالة (تموز) أقوى فهو(اله النماء والخصب والعطاء وزوج عشتار الهة الحب والجمال، ومأساته معروفة )

المعجم اللغوي الذي استخدمته الشاعر هو معجم بيئتها ، نجد مفردات (النخل، النخيل، العصفور الرطب، النوافل، الحشائش، دخان الطبينة ، شواء الظهيرة ،عباد الشمس، الرمل، التلال، السيول، البراري، الكحل، ماء العيون، العود والمسك، اللحية ، العباءة) 

القصيدة قدمت تجربة مثيرة ولكن الشاعرة يبدو عليها الاستعجال والإسراع في إنهاء نصها قبل إنضاج فكرته وكان من الممكن أن تكون القصيدة أعمق من ذلك بكثير لو انها استثمرت ما بدأت به من تنويه عن الصراع الأزلي بين الجسد والروح، بين الحركة والسكون، بين الإنطلاق والجمود، بين التحرر والعبودية، والكثير من هذه التناقضات الثنائية التي هي المادة الأساسية للديالكتيك الخلاق للتاريخ والمجتمع ومن قبلهما للمادة (بروتون- الكترون)

 وأخيرا اتمنى كل الموفقية للشاعرة حوراء الهميلي وإبداع جديد ممتع


...

بقلم

فخري محفوظ 

 كاتب عراقي

١٣ / تموز/  ٢٠٢٣ م

https://www.facebook.com/fikri.mahzour?mibextid=ZbWKwL


ولقراءة القصيدة 

https://araboart.blogspot.com/2023/07/blog-post_13.html






تعليقات