رؤية نقدية لقصة د.خالد العجماوي القصيرة الكف الحاني بقلم م. مصطفى حامد جاد الكريم

  





مثال تطبيقي على النظرية الابداعية النقدية البرامجية

...

الكف الحاني

قصة قصيرة

خالد العجماوي

.

كنت في السابعة حين حدث الأمر أول مرة. كانت الواحدة ليلا، بينما يتدلى رأسي من الشباك، في الدور الخامس، وأنا أحدق في خيال رابض تحت باب منزلنا، حين أفلتت يدي فجأة، لأجدني أسقط حرا هكذا في الهواء. لم يكن ثمة أحد في الشارع، حتى ذلك الخيال الرابض ذهب واختفى، بينما أهبط بجسدي الضئيل نحو الأرض. وقتها ظهر ذلك الكف الكبير، وحملني عبر راحته قبل الارتطام بمتر أو مترين، وصعد بي إلى غرفتي عبر شباكي، ليضعني على الفراش، ويربت على كتفي في حنان، ثم يمضي!

لما طلع النهار حكيت لأمي، ضحكت وقبلت رأسي وهي تحسدني على خيالي، وطلبت ألا أتدلى برأسي من الشباك، حتى لا يحدث ما حلمت به بالأمس. كانت تراني أحلم، وفي البداية صدقتها.

في الليل وبعد أن ذهب الجميع للنوم، نظرت إلى الأسفل عبر الشباك، لم أجد أي خيال، ولم أجد حتى أي كائن يسير. ولكني تعمدت أن أتدلى برأسي، ثم تركت يدي كي تفلت، ووجدتني أسقط حرا عبر الهواء إلى الأرض، وقبل أن أرتطم بمتر أو مترين، ظهرت الكف الكبيرة مجددا، وحملتني، ثم وضعتني في فراشي بعد أن ربتت علي!

لم أخبر أمي. لم أحب تلك الابتسامة على شفتيها، ولا تلك القبلة التي طبعتها على رأسي، وهي تنكر وجود ذلك الكف الكبير هكذا بسهولة، واعتبرتها نوعا من الاستهزاء وإنكار الجميل بعد أن حمتني من الموت المحقق، معللة ما يحدث بأنه مجرد حلم. 

صرت أتدلى كل ليلة، قبيل الفجر، وأفلت يدي، وأسقط، فتلقفني تلك اليد، الكبيرة، وأنا أتمرغ فوق راحتها متدللا، وترفعني في الهواء حتى تضعني في فراشي، فأنام بعدها قرير العين، شاكرا لها صنيعها الجميل. كان السر في صدري كبيرا إلى الحد الذي يصعب معه الكتمان، ولم أجد في عيون أمي أنها تصدقني، ورأيت أن الكف الكبير يستحق أن يُعرف، وأن يشكره جميع الناس، بل وارتأيت أن أولاد الجيران وبعض زملاء دراستي، يستحقون أن يتعرفوا على ذلك الكف الحاني، ولكن وبعد أن بحت بسري هذا صارت الأحداث تتوالى في سرعة وجنون..

بعد يومين وقفت الناظرة وخلفها المعلمون، وطوابير التلاميذ كلهم حدادا على روح زميلنا الفقيد، حيث وجدوه ملقى على قارعة الطريق، أسفل بيته، بعد أن سقط من شباك منزله من الدور السابع. 

لم يمر يومان آخران، حتى سمعنا صراخا ذاهلا وأسيفا، يخرج من بيت جارتنا، بعد أن وجدت وليدها الوحيد ملقى على الأرض إثر ارتطام هائل بعد سقوط من الدور العاشر.

تكرر الحداد في المدرسة بعد يومين، وكذلك الصرخات من البيوت في جوف الليل، لا يكاد يمر ثلاثة أيام حتى نسمعها تخترق الحجب، وتصم الأذان، وهي تعلن أن ثمة سقوط جديد.

ما عدت أغفل عن تلك النظرات بعدها. العيون وهي تضيق حين تشخص نحوي وحواجبها مرفوعة بشيء من المقت، والشك وكثير من الريبة!

ثم حدث أن وجدنا دقا عنيفا هادرا على باب منزلنا. كان جارنا في العمارة المجاورة لنا، دلف إلينا وهو يلبس فانلة داخلية قصيرة، تكشف عن صدر بشعر كث، وكرش كبير متدل، وصدره يعلو ويهبط في انفعال، وقد تصبب منه عرق غزير، وهو يدفع ابنه أمامه، وقد بدا ضئيلا أمامه كفأر مبلول. 

- ابنك الملعون يقتل أولادنا!

قالها في انفعال هائل لأبي، الذي وقف ذاهلا ومضطربا، غير مستوعب أو مصدق.

أردف الرجل بصوت هادر وهو يشير إلى ابنه الضئيل:

- كان سيتسبب في موت ابني، لولا ستر الله، لما استنقذته من الموت..

نظر إليه أبي، ثم نظر إلي وهو يهز رأسه في استغراب، فأشار الرجل إلى ابنه كي يتكلم، فما كان من ابنه الضئيل إلا أن نظر إلي بعين مكسورة، وهو يزرد ريقه المتيبس، ويقول بصوت مبحوح وهو يشير نحوي:

- قال إن هناك كفا حانية تحملنا في الهواء، وتمنعنا من السقوط. 

نظر إلي أبي في هلع، وهز رأسه في عنف، وقال الرجل بصبر نافد:

- سأبلغ الشرطة، وسيحققون، ولن يرحمك أحد. 

ثم ذهب وهو يسب ويلعن. 

لم تهدأ صرخات الثكالى. صارت تتوالى، ومن بعدها العيون تنهشني وأبي وأمي بنظرات ملؤها الغضب والمقت المشبوب باللعنات. 




دخل أبي حجرتي بوجه أحمر، وعينان تغليان، وقال رافعا إصبعه محذرا:

- ستنكر كل شيء في التحقيقات غدا. كل شيء. 

في التحقيق سألوني إن كنت قد سردت شيئا حول كف يطير، يحمل الأطفال، ويتلقفهم قبل سقوطهم. لم أنكر ما يحدث معي، ولم أكفر بالكف أمام المحققين. قلت إن راحته تشبه السحابة، وإني أتمرغ فوقها قبل أن تضعني على فراشي وتتركني. وأنه يحدث كل ليلة، وأني مستعد أن أسقط أمامهم كي يروا الكف بأنفسهم. جن جنون أبي، ورأيته يبكي وهو يقبل أيديهم أن يرحموني. قال إني مجرد طفل، وأنه سيؤدبني على كذبي. في البيت ضربني بعنف. صفعني على وجهي، وسط صرخات أمي وهي تتوسل أن يكف عن ضربي. 

وفي الليل، وقبيل الفجر، وقبل أن أمارس هوايتي في السقوط، سمعت تأوهات أبي. كان صوته واهنا، يند ألما دفينا ووجعا. مشيت نحو غرفته على أطراف أصابعي، وأنا أحاول أن أسترق إليه النظر عبر حجاب الظلام. كادت صرخة تفر من بين شفتي، وأنا أرى ذلك الكف الحاني وقد دخل إلى غرفة أبي، يصفع وجهه في عنف، والعرق ينز من وجهه، ثم تلكمه في صدره، وقلبه، وهو يئن من الألم. 

في الصباح رأيته بعد أن قام من فراشه. ضعيفا واهنا، شاحب الوجه، وعلى كتفه وذراعه بقع زرقاء، وعرق غزير. 

لم تمر أيام طوال، وأنا ألحظ أمي تبكي في خوف مكبوت، ووجه أبي يزداد شحوبا، وتلك البقع تزداد رقعة على صدره وذراعه. حتى سمع الجيران حولنا صرخة امرأة تولول. لم تكن هذه المرة امرأة تصرخ على وليدها بعد السقوط، إنما كانت صرخة زوجة مغلوبة على أمرها، فقدت لتوها زوجها الضعيف، شاحب الوجه، والمليء بالبقع.

لم أشك لحظة أنه ذلك الكف، وأنها تلك الضربات التي رأيتها حين ذهبت في جوف الليل أسترق النظر إلى أبي وأنا أسمع أناته. أيها الكف الحاني، كم قسوت على أبي، فأوجعته بقبضتك الضخمة. كم كان عقابك قاسيا. أعرف أنك تستحق أن تعرف، وأن يراك الناس وأنت تحملني في ظلمة الليل، وأثناء سقوطي وقبل الارتطام..

واستجمعت شتات أمري، وبقايا شجاعتي. وذهبت إلى مدرستي رافعا هامتي نحو السحاب، غير مبال بنظراتهم نحوي. صعدت السلم في غير اكتراث، وهم يتهامسون عني، حتى وصلت إلى سطح المدرسة، ثم وقفت فوق السور الكبير، ونظرت إليهم في الأسفل، فوجدتهم صغارا، شاخصين نحوي في هلع، وقد تعالت صرخاتهم الجازعة. ها أنا أيها الكف الجميل أفي بوعدي، وما عليك سوى أن تظهر أمامهم ها هنا، فيعترفون بوجودك، ومن ثم يرجع أبي، وتفرح أمي.

نظرت إلى الفناء الواسع في الأسفل، ثم تركت نفسي تهوي إليه مطمئنة. وقبل أن يصل جسدي إلى الفناء بمتر أو مترين، لم يظهر ذلك الكف الحاني، غير أني وجدتني أجلس مع أبي في فضاء واسع. لم يعد وجهه شاحبا، وقد اختفت البقع، وعادت إليه فتوته. ثم رأيت فضاءنا يُفتح، وذلك الكف الكبير يحمل أمي، ويضعها عندنا في حنان. قبّلها أبي في شوق عظيم، وقبلتني، وصرنا نلعب ونضحك، ونأكل ونشرب، ونحن نتسامر حول ليالينا في صحبة ذلك الكف الكبير. ولكني نسيت أن أسأله: لماذا لم تظهر في ذلك اليوم كما كنت تفعل كل ليلة؟ لم أصر على السؤال ولم أهتم؛ فقد عاد لي أبي، وفرحت أمي.

..........

قراءة نقدية في قصة "الكف الحاني" ..خالد العجماوى

من منظور نظرية الابداع والنقد البرامجية

.

المجاز في الابداع تصنعه البرامج العقلية الابداعية

والمجاز في الشعر يتمثل في الصورة الشعرية

والمجاز في السرد نوعان

الأحداث الواقعية التي تشبه الأحداث المألوفة لنا

وهو مجاز لأن الكاتب تخيل هذه الأحداث واختار مصير ابطالها 

ويمكن أن نسميها المجاز الواقعي

والنوع الآخر هو الأحداث غير المألوفة مثل ظهور الأشباح

ويمكن ان نسميه المجاز الفانتازي

وهذا المجاز اما ان تكون له دلالة رمزية واضحة "واعية" أي تفهمها البرامج العقلية النظرية وربما اشتركت في صنعها مع البرامج الابداعية والبرامج السلوكية

أو تكون دلالته غامضة "غير واعية" 

صنعتها البرامج الابداعية بالتعاون مع البرامج السلوكية وهي دلالة معقدة لا تفهمها البرامج النظرية بسهولة

فإذا حاولنا أن نجد للكف في قصتنا دلالة واعية

فقد ترمز مثلا للعناية الإلهية

لكن ذلك قد يتناقض مع ما سببته من مآس غير منطقية

ولذا اميل إلى اعتبارها نوعا من المجاز الفانتازى اللاواعي

وهذه الكف بقدر ما اشاعت من جو الحنان مع الطفل

فإنها صدمتنا بالضحايا والمعاملة القاسية للاب

وهذا التناقض غير المنطقي ربما يعكس شعور الكاتب بان الحياة غير منطقية وصادمة

وأننا لن نجد السعادة الا اذا غادرنا تلك الحياة

وهو شعور دفع البرامج السلوكية بالتعاون مع البرامج الابداعية لانتاج ذلك المجاز الغامض

اما جماليات النص فقد تعاونت البرامج الجمالية مع البرامج اللغوية لصنعها

ولا يستطيع العقل النظري تفسيرها

بل فقط البرامج الجمالية للمتلقى والناقد ستشعر بها

...

بقلم

م.مصطفي حامد جاد الكريم 

تعليقات