إغواء المقامات وارتجاف الكلمات ... بقلم د.أحمد فرحات

 


إغواء المقامات وارتجاف الكلمات

 

ينطلق د. زكي مبارك  من تعريف المقامات إلى أحوالها عند الصوفيين، فيبدأ بتعريف المقامات لغة فيقول: المقامات جمع مقام بالتذكير، وهو الخطبة أو العظة يلقيها الرجل في حضرة الخليفة أو الملك والمقام في الأصل المجلس والموقف العصيب. 

أما عند عند الصوفيين فإنها تعني مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله تباركت أسماؤه. 

ترتيب المقامات عند الصوفية: التوبة، الصبر، الشكر، الرجاء، الخوف، الرضا، الزهد، الفقر، الورع.. 

وعندما نتأمل ديوان"رجفة المقامات" للشاعر محمد الشحات  صاحب المشروع الشعري المتميز فإننا نلفي اتكاءه على: مقام الوجد، مقام الخوف، مقام النادمين، مقام العارفين، مقام الواصلين، مقام الحزن، مقام النازفين، مقام الخائفين... وفي ختام مقاماته يوجه خطابه إلى متلقي شعره مباشرة ويقول: 

هذا مقامُكَ ؛  فاستعدْ/من كل ما يُدنيكَ/واسكنْ هدأةَ الأعضاءِ.

ومن خلال قراءة المقامات عند أقطاب الصوفيين، وعند الشاعر، يتبين لنا أنهما مختلفان تماما، وإن تشابها في بعض الوجوه، فمقامات الشحات هي نظرة معاصرة لكل ما يدور في مدار فضاء العالم المعاصر وليست كمقامات الصوفيين المتعارف عليها. 

طال المقامُ/فشدنى من طولِهِ/ما قد تلبد وانثنى/وكشفتُ من أسرارهِ/ما هزَّنى حتى اكتويتُ/وما برحتُ إذا انتبهت بأننى/سأظل أبحثُ/فى متاهات المقامِ/وأرتوي/حتى يظنَّ الخلقُ/أني ما ارتويتُ/فأعودُ من حيث انطلقتْ

يطالعنا محمد الشحات بمطلع لاهث، حتى ظن أن للمقامات متاهات، وأنه وإن أخفق في كشف أسرارها فلن يمل من إعادة المحاولة، وتقديم الرؤية الخاصة به للعالم المكون لفضاء شعره، فالشاعر لم يرتض من عالمه وقوعه في براثن الغواية والتشتت والضياع وقلة الأخلاق وكل ما يصيب المجتمع من أذى وارتياب وتدهور على المستويات الاجتماعية والأخلاقية وغيرها(ما تلبد وانثنى)لكنه استمسك بعرى الفضيلة وحاول نشرها بين الخلق، ويبدو أن دعوته باءت بالفشل، فيعاود الكرة مرة أخرى باحثا عن الفضيلة ومحبة الخير والعدالة. ففي هذا المقطع شديد التركيز فيه إجمال لعرض قضيته، وكلماته الدالة على ذلك: طال المقام/ شدني/تلبد/ انثنى/ الهزة/ الاكتواء/ متاهات/ الخلق.. وكلها عبارات لاهثة وراء الكشف. 

المطلع الملتهب يقابله صور أكثر التهابا، وأكثر ألما في النفس، ففي الفعل طال، وكلمة المقام إطالة بالمد، ليزيد الصورة عمقا وحزنا، وفي الفعل (شدّني) بالتضعيف واقتران الفعل بياء المتكلم إيحاء بهول الحدث وشدته وذاتيته أيضا؛ فالهول الذي رآه الشاعر هزه هزا عنيفا حتى اكتوى، لاحظ معي أفعال التعذيب هزّ/شدّ/اكتوى/تلبّد/انثنى.. وهي أفعال تارة بالتضعيف، وتارة بالوزن افتعل وما فيه من إمعان في الشدة وتجسيد لهول الكارثة. نحن أمام شاعر يعذب نفسه ويجلد ذاته نتيجة أخطاء الآخرين، ولا من بأس في ذلك فالشاعر نبي لم يرسل. 


هذا مقامُ  الوجدِ/فأهدأ حين تدخلُهُ/وخفِّفْ من مداومةِ افتعالِ الشوقِ/واتركْ رجفةَ الأعضاءِ تأتي/فجأة/كي لا تتوهَ بها./واعلم بأنك إن عرَفتَ الوجدَ/حين يمرّ فى أركانِ قلبكِ/تقشعرُّ/فقد تفرّعَ/حين أفرغَ/فى ربوعِكَ هدأةً وسكينةً/حتى تحسّ بأن قلبَك طائرٌ/أو كاد يمرحُ فى الفضاءْ/فتظل/ تهفو فى ربوعِ/الكونِ/تبحثُ عن مقامِكَ/فارتحلْ/تنجُ بنفسِكَ/وانتبهْ..


تبدأ أولى مقامات الشحات الخاصة،  بجملة تقريرية لتحديد مقام الوجد، والوجد هو ما يصادف القلب ويَرِد عليه دون تكلُّف وتصنّع من فزع أو غمّ أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو هو لهب يتأجّج من شهود عارض القلق وللوجد مراتب هي: التواجد، والوجد، والوجود وهو المرتبة العليا والأخيرة. يشير الشاعر إلى الارتحال والنجاة من خلال الوجد لأن أركان القلب تقشعر وتتحول إلى هدوء وسكينة من فرط ما عرف من الوجد، فالدعوة إلى الارتحال نجاة من المهالك التي يتعرض لها الشاعر جراء رؤية واقع مأزوم، فيه كل شيء مقلوب، فلا  العالم مستفاد من علمه، ولا القارئ مستفاد من قراءته. وتردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والعلمية. 

هذا مقام العشقِ/إن  عاندتَهُ/ستتوهٌ إن لم تنتقِ الكلماتِ/إن لم ترتقِ الدرجاتِ/ماذا يحتويكَ من الجوى/فاتركْ مداخلكَ/اتساعٌ لا يُضاهيه اتساعْ/واغلق على أسوار صدرِكَ/ما حملتَ  مخافةً للفقدِ/واحبس كلّ شوقٍ/بين أركانٍ تحنّ لها./فإذا ارتضيتَ بما حملتَ/فلا تخفْ/ واترك فؤدَكَ ينتشي/يارجفةً تأتى ولا تأتي/فحاول أن تلوذَ بها/أو تختبي  كى لا تراكَ/فإن رأتْكَ/فدع لها كلَّ المدى /كي تحتويكَ.

مقام العاشقين مقام الوله، والوجد، والشوق، والحنين، فإن ارتجف قلبك عشقا لمن تحب فاترك فؤادك على سجيته يذوب عشقا. ففي المقامين السابقين لمقام العشق ينصح الشاعر قارئه بالنجاة والفرار، أما في مقام العشق يطالب قارئه بالذوبان فيه عشقا وهياما، ففيه يفرغ المرء  همومه، وينتشي انتشاء المحبين العاشقين، وقد خفت حدة الأفعال ومالت إلى الرضا والاتساع والانتشاء والاحتواء.. ففي مقام العشق انتشرت صور المحبة والاحتواء وراء كل صورة  "واحبس كلّ شوقٍ/بين أركانٍ تحنّ لها" وازدادت أفعال الأمر والنهي والشرط ، فللعشق مقام مشروط بالمحبة، وانتقاء كلمات العشق! وهو باب من أبواب تفرغ الشحنات العاطفية، ويدع صاحبه للأمام. 

"فإن رأتْكَ/فدع لها كلَّ المدى /كي تحتويكَ".

هذا مقامُ الخوفِ/فأحذرْ حينَ تدخله/واتركْ  على أعتابه/ ما قد يُسامره/كنتَ احتميتَ به/فى لحظة القلقِ المأجَّجِ/فأكتويتَ/وهزَّنى  وجعٌ/ ما عدتُ اذكره/فتركتُ خوفى/على أعتابِ ناصيتى/ومضيتُ أبحثُ/فى فضاءِ الكونِ/عن دفءٍ أصادقه. 

مقام الخوف فيه الحذر والترقب، وانتظار القلق وانشطاره، تتبدى الكلمات الدالة على الدلالة العامة: خوف،حذر،القلق، اكتواء، الوجع...وهذه المفردات نتيجة الولوج في بؤرة الخوف، وانشطار الذات في ترقب وقلق يفضي إلى الحذر . أصبح الخوف من الهمس، والتلفت، وانتظار المصير المحتوم خشية الوقوع في قبضة العدم، والخوف عند العلماء على غير ما يتصور في أوهام العامة، وخلاف ما يعدونه من القلق والاحتراق أو الوله والانزعاج؛ لأن هذه خطرات وأحوال ومواجيد للوالهين، وليست من حقيقة العلم في شيء، وإنما الخوف اسم لصحيح العلم وصدق المشاهدة، فإن أعطى عبد حقيقة العلم وصدق اليقين سمى هذا خائفًا، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم من أخوف الخلق؛ لأنه كان على حقيقة العلم . 

ومقام الخوف نتيجة الاغتراب النفسي الحاد للشاعر، فجعل من المقام نفسه مدخلا لتأملات الذات مما جعل ترديد الضمير ياء المتكلم يشيع بين أرجاء الرقعة الشعرية(هزني وجعي-ما عدت أذكره-مضيت-أبحث-أصادقه...)فانتقال الضمير من المخاطب إلى المتكلم فيما يسمى بظاهرة الالتفات.

...

بقلم

دكتور أحمد فرحات




تعليقات